كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وقال} يوسف عليه السلام: {للذي ظنّ}، أي: علم وتحقق، فالظنّ بمعنى العلم؛ لأنه قاله عن وحي لقوله: {قضي الأمر} ويجوز أن يكون ضمير ظنّ للساقي، فهو حينئذ على بابه: {أنه ناجٍ منهما} وهو الساقي: {اذكرني عند ربك}، أي: سيدك ملك مصر بما رأيت مني من معالي الأخلاق وطهارة الشيم الدالة على بعدي مما رميت به، والمراد بالرب هنا غير المراد به في قوله: {أأرباب متفرقون} فنجا الساقي وصلب صاحبه وفق ما قاله لهما يوسف عليه السلام، واختلف في ضمير: {فأنساه الشيطان ذكر ربه} على قولين:
أحدهما: أنه يعود إلى الساقي، وهو قول جماعة من المفسرين، أي: فأنسى الشيطان الساقي أن يذكر يوسف عند الملك قالوا: لأنّ صرف وسوسة الشيطان إلى ذلك الرجل الساقي حتى أنساه ذكر يوسف أولى من صرفها إلى يوسف.
والقول الثاني وعليه أكثر المفسرين: أنه يرجع إلى يوسف عليه السلام. وقال الرازي: إنه الحق، أي: أنّ الشيطان أنسى يوسف ذكر ربه تعالى حتى استعان بمخلوق مثله، وتلك غفلة عرضت له عليه السلام، فإنّ الاستعانة بالمخلوق في رفع الظلم جائزة في الشريعة إلا أنّ حسنات الأبرار سيئات المقرّبين، فهذا وإن كان جائزًا لعامّة الخلق إلا أنّ الأولى بالصدّيقين أن يقطعوا نظرهم عن الأسباب بالكلية وأن لا يشتغلوا إلا بمسبب الأسباب، فلهذا صار يوسف عليه السلام مؤاخذًا بهذا القول ولم يؤاخذه تعالى في تلك القصة البتة بل ذكره بأعظم وجوه المدح والثناء فعلم بذلك أنه عليه السلام كان مبرأً مما نسبه الجهال والحشوية إليه.
فإن قيل: كيف تمكن الشيطان من يوسف حتى أنساه ذكر ربه؟
أجيب: بأنّ ذلك إنما كان شغل خاطر، وأمّا النسيان الذي هو عبارة عن ترك الذكر وإزالته عن القلب بالكلية فلا يقدر عليه، واختلف في قدر البضع في قوله تعالى: {فلبث في السجن بضع سنين} فقال مجاهد: ما بين الثلاث إلى التسع. وقال ابن عباس: ما دون العشرة. وقال البغوي: وأكثر المفسرين أنّ البضع في هذه الآية سبع سنين، وكان قد لبث قبله خمس سنين، فجملته اثنتا عشرة سنة، وقال وهب: أصاب أيوب البلاء سبع سنين وترك يوسف في السجن سبع سنين. وقال مالك بن دينار: لما قال يوسف للساقي: اذكرني عند ربك، قيل له: يا يوسف اتخذت من دوني وكيلًا لأطيلنّ حبسك، فبكى يوسف وقال: يا رب أنسى قلبي كثرة البلوى، فقلت كلمة، قال الحسن: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «رحم الله يوسف لولا كلمته التي قالها ما لبث في السجن ما لبث» ثم بكى الحسن وقال: نحن إذا نزل بنا بلاء فزعنا إلى الناس، ذكره الثعلبي مرسلًا وبغير سند. وقال الحسن أيضًا: دخل جبريل على يوسف عليهما السلام في السجن، فلما رآه يوسف عرفه فقال له: يا أخا المنذرين ما لي أراك بين الخاطئين. فقال له جبريل: يا طاهر يا ابن الطاهرين يقرأ عليك السلام رب العالمين ويقول لك: أما استحييت مني واستشفعت للآدميين فوعزتي لالبثنك في السجن بضع سنين. قال يوسف: وهو في ذلك عني راض؟ قال: نعم. قال: إذًا لا أبالي. وقال كعب: قال جبريل ليوسف: إنّ الله تعالى يقول لك: من خلقك؟ قال: الله. قال: فمن علمك تأويل الرؤيا؟ قال: الله. قال: فمن حببك إلى أبيك؟ قال: الله. قال: فمن أنجاك من كرب البئر؟ قال: الله تعالى. قال فمن صرف عنك السوء والفحشاء؟ قال: الله. قال: فكيف استشفعت بآدمي مثلك؟.
قال محمد بن عمر الرازيّ في تفسيره: والذي جربته من أوّل عمري إلى آخره أنّ الإنسان كلما عوّل في أمر من الأمور على غير الله تعالى صار ذلك سببًا للبلاء والمحنة والشدّة والرزية، وإذا عول على الله تعالى ولم يرجع إلى أحد من الخلق حصل ذلك المطلوب على أحسن الوجوه، فهذه التجربة قد استمرّت لي من أوّل عمري إلى هذا الوقت الذي بلغت إلى السابع والخمسين، فعند ذلك استقرّ قلبي على أنه لا مصلحة للإنسان في التعويل على شيء سوى فضل الله تعالى وإحسانه. ولما دنا فرج يوسف عليه السلام رأى ملك مصر الأكبر الريان بن الوليد رؤيا عجيبة هائلة، كما قال تعالى: {وقال الملك إني أرى}، أي: رأيت عبر بالمضارع حكاية للحال لشدّة ما هاله من ذلك: {سبع بقرات سمان}، أي: خرجن من نهر يابس، والسمن زيادة البدن من الشحم واللحم وسمان جمع سمينة، ويجمع سمين أيضًا عليه يقال: رجال سمان ونساء سمان كما يقال: رجال كرام ونساء كرام: {يأكلهنّ}، أي: يبتلعهنّ: {سبع}، أي: من البقر: {عجاف} جمع عجفاء، أي: مهازيل خرجن من ذلك النهر.
تنبيه: جمع عجفاء على عجاف، والقياس عجف نحو حمراء وحمر حملًا له على سمان؛ لأنه نقيضه، ومن دأبهم حمل النظير على النظير والنقيض على النقيض: {و} إني أرى: {سبع سنبلات خضر}، أي: قد انعقد حبها: {و} إني أرى سبع سنبلات: {أخر يابسات}، أي: قد أدركت، فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها وإنما استغنى عن بيان حالها بما نص من حال البقرات، والسنبلة نبات كالقصبة فيها جملة حبوب منتظمة، فكأنه قيل: فكان ماذا؟ فقيل: قال الملك بعد أن جمع السحرة والكهنة والمعبرين: {يا أيها الملأ}، أي: الأشراف النبلاء الذين تملأ العيون مناظرهم والقلوب مآثرهم: {أفتوني في رؤياي}، أي: أخبروني بتأويلها: {إن كنتم للرؤيا تعبرون}، أي: إن كنتم عالمين بعبارة الرؤيا فاعبروها.
تنبيه: اللام في للرؤيا مزيدة فلا تعلق لها بشيء، وزيدت لتقدّم المعمول تقويةً للعامل كما زيدت إذا كان العامل فرعًا كقوله تعالى: {فعال لما يريد} [البروج] ولا تزاد فيما عدا ذينك إلا ضرورة، وقيل: ضمن تعبرون معنى ما يتعدّى باللام تقديره: إن كنتم تنتدبون لعبارة الرؤيا، وقيل: متعلقة بمحذوف على أنها للبيان كقوله تعالى: {وكانوا فيه من الزاهدين} [يوسف] تقديره: أعني فيه، وكذلك هذا تقديره: أعني للرؤيا، وعلى هذا يكون مفعول تعبرون محذوفًا تقديره تعبرونها، وفي الآية ما يوجبه حال العلماء من حاجة الملوك إليهم فكأنه قيل: فما قالوا؟ فقيل: {قالوا} هذه الرؤيا: {أضغاث}، أي: أخلاط: {أحلام} مختلطة مختلفة مشتبهة جمع ضغث بكسر الضاد وإسكان الغين المعجمة، وهي قبضة حشيش مختلطة الرطب باليابس، والأحلام جمع حلم بضم الحاء وإسكان اللام وضمها، وهو الرؤيا فقيدوها بالأضغاث، وهو ما يكون من الرؤيا باطلًا لكونه من حديث النفس ووسوسة الشيطان لكونها تشبه أخلاط النبات التي لا تناسب بينها؛ لأنّ الرؤيا تارة تكون من الملك وهي الصحيحة، وتارة تكون من تحزين الشيطان وتخليطاته، وتارة من حديث النفس، ثم قالوا: {وما نحن}، أي: بأجمعنا: {بتأويل الأحلام}، أي: المنامات الباطلة: {بعالمين}، أي: ليس لها تأويل عندنا، وإنما التأويل للمنامات الصادقة كأنه مقدّمة ثانية للعذر ولما سأل الملك عن هذه الرؤيا واعترف الحاضرون بالعجز عن الجواب تذكر ذلك الشرابي واقعة يوسف عليه السلام؛ لأنه كان يعتقد فيه كونه متبحرًا في هذا العلم كما قال تعالى: {وقال الذي نجا}، أي: خلص: {منهما}، أي: من صاحبي السجن وهو الشرابي إنّ في الحبس رجلًا فاضلًا صالحًا كثير العلم كثير الطاعة قصصت أنا والخباز عليه منامين فذكر تأويلهما فصدق في كل ما ذكر وما أخطأ في حرف، فكانت هذه الرؤيا سببًا لخلاص يوسف عليه السلام، ولم يتذكر الشرابي إلا بعد طول المدّة كما قال تعالى: {وادّكر} بالدال المهملة، أي: طلب الذكر بالذال المعجمة وزنه افتعل: {بعد أمّة}، أي: وتذكر يوسف بعد جماعة من الزمان مجتمعة، أي: مدّة طويلة، والجملة اعتراض ومقول القول: {أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون}، أي: إلى يوسف عليه السلام فإنه أعلم الناس فأرسلوه إليه، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ولم يكن السجن بالمدينة فأتاه، فقال الساقي المرسل إليه مناديًا له نداء القرب تحببًا إليه: {يوسف} وزاد في التحبب بقوله: {أيها الصدّيق}، أي: البليغ في الصدق والتصديق؛ لأنه جرّب أحواله وعرف صدقه في تأويل رؤياه ورؤيا صاحبه، وهذا يدل على أنّ من أراد أن يتعلم من رجل شيئًا فإنه يجب عليه أن يعظمه وأن يخاطبه بالألفاظ المشعرة بالإجلال، ثم إنه أعاد السؤال يعني اللفظ الذي ذكره الملك فقال: {أفتنا}، أي: اذكر لنا الحكم: {في سبع بقرات سمان}، أي: رآهنّ الملك: {يأكلهنّ سبع} من البقر: {عجاف و} في: {سبع سنبلات} جمع سنبلة وهي مجمع الحب من الزرع: {خضر و} في سبع: {أخر} من السنابل: {يابسات}، أي: في رؤيا ذلك، ونعم ما فعل من ذكر السؤال بعين اللفظ، فإنّ نفس الرؤيا قد تختلف بحسب اختلاف الألفاظ كما هو مذكور في ذلك العلم ثم قال: {لعلي أرجع إلى الناس}، أي: إلى الملك وجماعته بفتواك قبل مانع يمنعني: {لعلهم يرجعون}، أي: بتأويل هذه الرؤيا، وقيل: بمنزلتك في العلم. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بفتح الياء، والباقون بالسكون.
{قال} يوسف عليه السلام معبرًا لتلك الرؤيا: أمّا البقرات السمان والسنبلات الخضر فسبع سنين مخصبات، وأمّا البقرات العجاف والسنبلات اليابسات فسبع سنين مجدبة فذلك قوله: {تزرعون سبع سنين} وهو خبر بمعنى الأمر كقوله تعالى: {والمطلقات يتربصن} [البقرة]: {والوالدات يرضعن} [البقرة] وإنما خرج الأمر في صورة الخبر للمبالغة في الإيجاب فيجعل كأنه وجد فهو يخبر عنه، والدليل على كونه في معنى الأمر قوله: {فذروه في سنبله} وقوله: {دأبًا} نصب على الحال، أي: دائبين، أي: سبع سنين متتابعة على عادتكم في الزراعة، والدأب العادة، وقيل: ازرعوا بجد واجتهاد، وهذا تأويل السبع السمان والسنبلات الخضر. وقرأ حفص بفتح الهمزة، وسكنها الباقون، وأبدلها السوسي ألفا وقفًا ووصلًا، وحمزة وقفًا فقط. {فما حصدتم فذروه}، أي: اتركوه: {في سنبله} لئلا يفسد ولا يقع فيه السوس، وذلك أبقى له على طول الزمان: {إلا قليلًا مما تأكلون}، أي: ادرسوا قليلًا من الحنطة للأكل بقدر الحاجة، أمرهم بحفظ الأكثر لوقت الحاجة أيضًا، وهو وقت السنين المجدبة كما قال: {ثم يأتي من بعد ذلك}، أي: السبع المخصبات: {سبع شداد}، أي: مجدبات صعاب وهي تأويل السبع العجاف والسنبلات اليابسات: {يأكلن ما قدّمتم لهنّ}، أي: يأكل أهلهنّ ما ادّخرتم لأجلهنّ، فأسند إليهنّ على المجاز تطبيقًا بين المعبر وهو يأكلهنّ سبع عجاف والمعبر به وهو يأكلن ما قدّمتم لهنّ: {إلا قليلًا مما تحصنون}، أي: تحرزون وتدّخرون للبذر، والإحصان الإحراز وهو إبقاء الشيء في الحصن بحيث يحفظ ولا يضيع.
{ثم يأتي من بعد ذلك}، أي: السبع المجدبات: {عام فيه يغاث الناس}، أي: يمطرون من الغيث وهو المطر، وقيل: ينقذون من قول العرب استغثت فأغاثني: {وفيه يعصرون} من العنب خمرًا، ومن الزيتون زيتًا، ومن السمسم دهنًا، وأراد بذلك كثرة النعم والخير. وقال أبو عبيدة: ينجون من الكرب والشدّة والجدب. وقرأ حمزة والكسائي بالتاء على الخطاب؛ لأنّ الكلام كله مع الخطاب، والباقون بالياء على الغيبة ردًّا إلى الناس. ولما رجع الشرابي إلى الملك وعرض عليه التعبير الذي ذكره يوسف عليه السلام استحسنه.
{وقال الملك}، أي: الذي العزيز في خدمته: {ائتوني به} لأسمع ذلك منه وأكرمه وهذا يدلّ على فضيلة العلم فإنه سبحانه وتعالى جعل علمه سببًا لخلاصه من المحنة الدنيوية، فكيف لا يكون العلم سببًا للخلاص من المحن الأخروية؟ فأتاه الرسول ليأتي به إلى الملك: {فلما جاءه}، أي: يوسف عليه السلام عن قرب من الزمان: {الرسول} بذلك وهو الساقي وقال له: أجب الملك: {قال} له يوسف عليه السلام: {ارجع إلى ربك}، أي: سيدك الملك، ولم يخرج معه حتى يظهر برهانه للملك ولا يراه بعين النقص ولذلك قال: {فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهنّ} وإنما قال يوسف عليه السلام: فاسأله ما بال النسوة، ولم يقل: فاسأله أن يفتش عن حالهنّ؛ لأنّ قوله: فاسأله يحتمل أن يكون بمعنى المسألة، أي: اسأله عن شأنهنّ وأن يكون بمعنى الطلب، وهو أن يفتش عن شأنهنّ فحسن تقييده بلفظ ما التي يسأل بها عن حقيقة الشيء ليهيجه أن يتحرك للتفتيش عن حالهنّ؛ لأنّ الإنسان حريص على تحقيق الشيء ويستنكف أن ينسب إلى الجهل به بخلاف ما لو قال: سله أن يفتش، أي: اطلب منه فإنه لا يبالي بهذا الطلب ولا يلتفت إليه لاسيما الملوك.
وإنما لم يتعرّض لسيدته مع ما صنعته به كرمًا ومراعاة للأدب، وقدّم سؤال النسوة وفحص حالهنّ لتظهر براءة ساحته؛ لأنه لو خرج في الحال لربما كان يبقى في قلب الملك من تلك التهمة أثر، فلما التمس من الملك أن يفحص عن حال تلك الواقعة دل ذلك على براءته من تلك التهمة، فبعد خروجه لا يقدر أحد أن يلطخه بتلك الرذيلة وأن يتوصل بها إلى الطعن فيه، وفي ذلك دليل على أنه ينبغي للشخص أن يجتهد في نفي التهم ويتقي مواقعها وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لقد عجبت من يوسف وصبره والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ولو كنت مكانه ما أجبتهم حتى اشترطت أن يخرجوني، ولقد عجبت منه حيث أتاه الرسول فقال: ارجع إلى ربك ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبث لأسرعت الإجابة وبادرتهم الباب ولما ابتغيت العذر، إن كان لحليمًا ذا أناة». وأصل الحديث في الصحيحين مختصرًا، وإنما قال صلى الله عليه وسلم ذلك على سبيل التواضع لا أنه صلى الله عليه وسلم كان في الأمر منه مبادرة وعجلة لو كان مكان يوسف، والتواضع لا يصغر كبيرًا ولا يضع رفيعًا ولا يبطل لذي حق حقه، لكنه يوجب لصاحبه فضلًا ويلبسه جلالة وقدرًا، وقوله: «والله يغفر له» مثل هذه المقدمة مشعرة بتعظيم المخاطب من توقيره وتوقير حرمته كما تقول لمن تعظمه: عفا الله عنك ما صنعت في أمري، ورضي الله تعالى عنك ما جوابك عن كلامي، وقوله: «إن كان لحليمًا» إن هي المخففة من الثقيلة، والأناة الوقار، وقيل: هو اسم من التأني في الأمور. وقرأ ابن كثير والكسائي بفتح السين ولا همزة بعدها، والباقون بسكون السين وهمزة مفتوحة بعدها: {إنّ ربي}، أي: الله: {بكيدهنّ عليم} حين قلن أطع مولاتك، وفيه تعظيم كيدهنّ والاستشهاد بعلم الله تعالى عليه وأنه بريء مما عيب به، والوعيد لهنّ على كيدهنّ، وقيل: المراد بربي الملك، وجعله ربًا لنفسه لكونه مربيًا له، وفيه إشارة إلى كون ذلك الملك عالمًا بكيدهنّ ومكرهنّ، ولما قال يوسف عليه السلام ذلك وأبى أن يخرج من السجن قبل تبين الأمر رجع الرسول إلى الملك فأخبره بما قال عليه السلام فكأنه قيل: فما فعل الملك؟ فقيل: {قال} للنسوة بعد أن جمعهنّ وامرأة العزيز معهنّ: {ما خطبكنّ}، أي: ما شأنكنّ العظيم وقوله: {إذ راودتنّ}، أي: خادعتنّ: {يوسف عن نفسه} دليل على أنّ براءته كانت متحققة عند كل من علم القصة، وإنما خاطب الملك جميع النسوة بهذا الخطاب، والمراد بذلك امرأة العزيز وحدها ليكون أستر لها، وقيل: إنّ امرأة العزيز راودته عن نفسه وسائر النسوة أمرنه بطاعتها فلذلك خاطبهنّ فكأنه قيل فما قلن؟ قيل: {قلن حاش لله}، أي: عياذًا بالملك الأعظم وتنزيهًا له من هذا الأمر: {ما علمنا عليه}، أي: يوسف عليه السلام وأغرقن في النفي فقلن: {من سوء}، أي: من خيانة في شيء من الأشياء، ولما أنّ يوسف عليه السلام راعى جانب امرأة العزيز حيث قال: {ما بال النسوة اللاتي قطعنّ أيديهنّ} [يوسف] فذكرهنّ ولم يذكر تلك المرأة البتة وعرفت المرأة أنه إنما ترك ذكرها رعاية لحقها وتعظيمًا لجانبها وإخفاء للأمر عنها أرادت أن تكافئه على هذا الفعل الحسن، فلا جرم أزالت الغطاء والوطاء فلذلك: {قالت امرأت العزيز} مصرحة بحقيقة الحال: {الآن حصحص الحق}، أي: ظهر وتبين: {أنا راودته}، أي: خادعته: {عن نفسه} وأكدت ما أفصحت به مدحًا ونفيًا لكل سوء بقولها مؤكدًا لأجل ما تقدّم: {وإنه لمن الصادقين}، أي: الغريقين في هذا الوصف في نسبة المراودة إليّ، وتبرئة نفسه، فقد شهد النسوة كلهنّ ببراءته، وإنه لم يقع منه ما ينسب به إلى شيء من السوء البتة، فمن نسب بعد ذلك هما أو غيره فهو تابع لمجرّد الهوى في نبيّ من المخلصين.
قال الرازي: رأيت في بعض الكتب أنّ امرأة جاءت بزوجها إلى القاضي وادّعت عليه المهر، فأمر القاضي بأن تكشف عن وجهها حتى يتمكن الشهود من إقامة الشهادة. فقال الزوج: لا حاجة إلى ذلك فإني مقرّ بصداقها في دعواها. فقالت المرأة: لما أكرمتني إلى هذا الحدّ فاشهدوا أني أبرأت ذمّتك من كل حق لي عليك. ولما رجع الرسول إلى يوسف عليه السلام وأخبره بشهادتهنّ ببراءته قال: {ذلك}، أي: الخلق العظيم في تثبتي في السجن إلى أن تبين الحق: {ليعلم} العزيز بإقرارها وهي في الأمن وأنا في محل الضيق والخوف علمًا مؤكدًا: {أني لم أخنه}، أي: في أهله ولا في غيرها: {بالغيب}، أي: والحال أنّ كلًا منا غائب عن صاحبه هذا قول الأكثرين أنه قول يوسف عليه السلام، قال الفراء: ولا يبعد وصل كلام إنسان بكلام آخر إذا دلت القرينة عليه ومثاله قوله تعالى: {إنّ الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة} [النمل] هذا كلام بلقيس، ثم قال الله تعالى: {وكذلك يفعلون} [النمل] وقوله تعالى: {ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه} [آل عمران] كلام الداعي ثم قال الله تعالى: {إنّ الله لا يخلف الميعاد} ثم ختم الكلام بقوله: {وأنّ الله لا يهدي}، أي: يسدّد وينجح بوجه من الوجوه: {كيد الخائنين}، أي: ولو كنت خائنًا لما خلصني الله من هذه الورطة العظيمة، وحيث خلصني منها ظهر أني بريء عما نسبوني إليه.